الجمعة ,26 أبريل 2024 - 6:40 مساءً
الرئيسية / ثقافة وأدب / قراءة نقدية…الحنين وتشكيل الواقع: قراءة في ومضات هدى كفارنة القصصية

قراءة نقدية…الحنين وتشكيل الواقع: قراءة في ومضات هدى كفارنة القصصية

 

د. جمال الجزيري

______________________________________

سأتناول في هذه الدراسة بعض الومضات القصصية للكاتبة السورية هدى كفارنة، وهي ومضات تجسد فكرة الحنين بشكل أو بآخر وكيف أن هذا الحنين له علاقة بالحاضر ويلقي الضوء على وضعية الراوية/الشخصية في حاضرها وشبكة العلاقات التي تمتد لتربط بين ماضيها وحاضرها.

حنين

أرتشف قهوتي، فتلفني المرارة، أرى في الفنجان وجه قمري البعيد، ووجوه من غابوا.

23 أبريل 2016

في ومضة “حنين”، يتم إبراز الفكرة في عنوان الومضة لتسليط الضوء عليها ولفت النظر لها مرتين: مرة من خلال العنوان، ومرة داخل نص الومضة ذاتها. الومضة مروية بضمير المتكلم في الزمن المضارع، وتجسّد هذه الومضة حالتين، على طريقة قصيدة الهايكو، فهناك مشهد حاضر يستدعي مشهدًا غائبا. الحدث بسيط جدا: راوية تشرب فنجان قهوة، فتشعر بالمرارة، وهذه المرارة مرارتان: مرارة القهوة ذاتها التي يبدو أنها من غير سُكَّر، ومرارة الوعي بغياب بعض الوجوه الحميمة التي ربما كانت تشارك الراوية شُرب القهوة من قبل.

ولذلك تقوم هذه المرارة بنقل الراوية إلى الفضاء الآخر الذي لا يرتبط بالمكان الحالي الذي يدور فيه الحدث: فها هو فنجان القهوة يتحول إلى مكان واسع يجمع وجوه الغائبين، بحيث يصير هذا الفنجان مكان الحدث وزمانَه ورابطًا بين الحاضر والماضي، كما أنه يقترن بأرض الذاكرة، ويستخرج من هذه الذاكرة الأشخاص الغائبين عن حاضر الراوية وترتبط بهم ارتباطا شديدًا: وتسلسل الاستحضار هنا له دلالته، فالراوية ترى أولا “وجه قمري البعيد”، ومن الواضح أنه الحبيب الغائب لسبب ما لا نعرفه، ولا يهم أن نعرفه، فالمهم غيابه عن حاضر الراوية واشتياقها له واستحضارها له من خلال رابط “المرارة”، ثم تأتي بعد ذلك “وجوه من غابوا”. ومن الملاحظ هنا أن الحبيب “بعيد” وليس غائبا أو مغيَّبًا، أي أنه سيقترب في يوم ما، الأمر الذي يفتح باب الومضة على الأمل. ولكن “وجوه من غابوا” تحتمل وجهين للغياب: غياب لا رجوع منه، وغياب مؤقت هناك أمل في الرجوع منه، الأمر الذي يرجّح كفَّة الأمل، وفي الوقت ذاته يستبقي جانبا من المرارة، لأن من غيِّبته الحربُ أو غيَّبه الموت لا سبيل لرجوعه.

تركز الومضة على لحظة زمنية واحدة، وهي اللحظة الحاضرة المتمثلة في ارتشاف القهوة والإحساس بمرارتها. وتحتوي على شخصية واحدة هي شخصية الراوية في هذه اللحظة الحاضرة. وتظهر الشخصيات الأخرى واللحظات الزمنية الأخرى على سبيل الاستحضار والتذكر والتخيُّل، وهي سُبُل تزيد ثراء اللحظة الحاضرة، وتمثِّل تناصًّا لوجه الراوية مع وجوه أخرى كانت موجودة في نفس المكان من قبل أو في مكان آخر كان يجمع الراوية بهم، وها هم يجيئون من خلال حلقة الوصل المتمثلة في القهوة ومرارتها، ليتشابكوا مع حاضر الراوية ويبددوا وحدتها ويحققوا إشباعا مؤقَّتًا لها، ويبثوا فيها أمل اللقاء، حتى لو اقتصر هذا اللقاء على بعض الوجوه دون غيرها.

نسائم

قفز الحنين بعقارب الوقت، كأن سحراً مسّني، فأحيتْ نسائمُه قلبي.

26 أبريل 2016

ومضة “نسائم” تجسِّد جانبا آخر من جوانب الحنين، وهو حنين للمستقبل في الغالب، فالقفزُ يكون للأمام، وقفز عقارب الوقت هنا انتقال فجائي لزمن مستقبل لم يأتِ بعد. وهو زمن ذاتي خاص لا ينتمي للزمن الواقعي بالطبع، أي أن هذا القفز يتم في إحساس الراوية ورؤياها التي تبصر ما لا يستطيع الزمن العملي أن يتيحه لها. فالراوية تؤكد أن حنينها هو الذي تسبب في قفز عقارب الوقت، الأمر الذي يجعل قدرة الإنسان على التخيُّل تشكِّلُ حياته بالصورة التي يرتئيها.

وذلك ما يفسر وصف الراوية لهذا التحول على أنه سحر مسَّها، وعندما يحضر السحر – بالمعنى المعتاد أو بمعنى الافتتان أو بمعنى القدرة على التشكيل مخالفةً لقوانين الاعتياد – تحضر القدرة على الخلق والتشكيل والتكوين والابتكار، وكأن هذا الحنين قدرة أو مَلَكَة إبداعية في حد ذاته. وتتمثل نتيجة هذا السحر في بعث الحياة في الراوية وقلبها من جديد، فهذا السحر “نسائم” هواء وحياة ووجدان وإحساس ووصال تقوم بإحياء قلب الراوية وابتعاثه من مواته الذي حدث بسبب غياب بعض الوجوه أو انقطاعٍ مؤقَّت في بعض العلاقات التي تربطها بأصحاب هذه الوجوه.

وهذه الومضة أيضا تبعث على الأمل، لأن هذا الحنين التقاء وتحقُّقٌ للذات في المستقبل القريب في الغالب، حتى لو كان ذلك على مستوى التخيُّل فقط، فمن ذاق حلاوة هذا التخيُّل سيعرف قيمته وسيعرف قيمة ما ينطوي عليه هذا التخيُّل، وسيسعى جاهدا إلى تحقيقه على أرض الواقع.

الومضة تركز على لحظة زمنية واحدة في الحاضر، وهذه اللحظة عبارة عن مثير يؤدي إلى خلق حالة نفسية ووجدانية ورؤيوية داخل الراوية، وتتحقق فيها الاستجابة لهذا المثير من خلال الإحساس بالحياة من جديد. ويربط بين المثير والاستجابة رابط افتراضي من خلال “كأن” التي تستحضر حالة من عالم آخر أو من مجال تصورات آخر وتُسقِطُها على الحالة الراهنة، فقوانين السحر التي تقع خارج نطاق حياة الراوية تحضر هنا بكامل عنفوانها وتُحْدِثُ تغييرا جوهريا وحياتيا في نفس الراوية.

بعد أن تناولتُ ومضتين بضمير المتكلم، سأنتقل الآن لأتناول ومضة بضمير الغائب تجسد أيضا مفهوم الحنين، وهي ومضة “اشتياق”:

اشتياق

تلتقط أذنها صوتك عبر الهاتف، تردّده بعناية، لعلّ موجاته تحضرك .

30 أبريل 2016

في الواقع، هذه الومضة ليست مكتوبة بضمير غائب خالص، فهي في الأساس مكتوبة بضمير متكلم افتراضي، أي أن الراوية تنتمي للعالَم الذي يدور فيه الحدث، ولكنها اكتفت بأن يقتصر دورها على السرد، دون أن تظهر هي كشخصية فاعلة في الحدث، وإن كانت هذه الفاعلية موجودة بشكل غير مباشر أيضا.

وتفرض هذه الومضة تحديات على علم السرد، وخاصة في الكتابة النسائية العربية، فالملاحَظ على الكثير من الكاتبات العربيات أنهن يستخدمن ضمير الغائب أحيانا للتعبير عن الذات، فيبدو أن هناك قيودا اجتماعية تتمثل في نظرة فئات كثيرة من المجتمع العربي الكبير إلى ضمير المتكلم على أنه تعبير شخصي، وليس أسلوبا أدبيا أكثر صدقا في التعبير وأكثر قدرة على تمثيل التجربة الأدبية الإبداعية التخييلية أفضل تمثيل. ولذلك، تلجأ بعض الكاتبات إلى توظيف ضمير الغائب ليحل محل ضمير المتكلم، ولكن ضمير الغائب في هذه الحالة يميل لأن يجمع بين الغياب والحضور، أي أن هذا الغياب غياب صوري لأن النص يحتفظ بحميمية ضمير المتكلم وصدقه.

كما أن ضمير الغائب هنا يقترن بضمير المخاطب، وهو ضمير يخصِّصُ المروي له أو عليه، فمن الملاحظ أن هذه الراوية التي تستخدم ضمير الغائب توجّه سردها لشخص محدد، وهذا الشخص يرتبط ارتباطا وثيقا بالشخصية التي تروي الراوية جانبا من حياتها، الأمر الذي يجعل هذا المخاطَب متلقِّيًا مرتين: مرة يتلقى صوت الشخصية عبر الهاتف، وفي المرة الثانية يتلقى صوت الراوية التي تنقل تجربة صوت الهاتف من زاوية أخرى.

تبدأ الومضة بالفعل “تلتقط”، وهو فعل مختار بعناية، إذا أنه يجمع بين التقاط الصور والتقاط الأخبار والتقاط الثمار والحبوب وما إلى ذلك، وسواء أكان هذا الالتقاط يدل على الالتقاط العفوي أم على الالتقاط القائم على السعي الحثيث من قِبل المرأة الملتَقِطَة هنا، يكتسب الصوت هنا دلالات إيجابية تنم عن أهميته القصوى في حياة هذه المرأة.

وحضور الهاتف في الومضة يدل دلالة مباشرة على غياب المخاطَب عن حياة الشخصية، وأن هذا المخاطب على تواصل معها برغم الغياب، سواء أكانت المرأة هي التي اتصلت به أم هو الذي اتصل بها، فالتركيز هنا على لحظة الاتصال ذاتها وأهميتها بوجه خاص في حياة هذه المرأة/الشخصية القصصية.

ويتحول صوت المخاطب في هذه الومضة القصصية إلى شيء قابل للاستملاك من طرف المرأة الشخصية، فالفعل “تردده” هنا لا يشير إلى الكلام، وإنما يشير إلى الصوت ذاته، فكيف تردد المرأة صوتا ليس صوتها؟ يبدو أنها تتقمّصُ هذا الصوت إلى أن يتلبَّسها ويصير متوحدا بصوتها، وكأن هذا الترديد وصال أو توحُّد عبر “الصوت” ينم عن وصال أو توحُّد مكتمل لاحقا، سواء أكان ذلك على سبيل التمنّي أم الواقع أم التوقع أم الاستباق. هل يمكننا هنا أن نقول إن هذه المرأة تتكلم بلسان المخاطَب من خلال ما يُعرف بالتكلم بلسان الآخر ventriloquy؟ بالرغم من أن هذا احتمال وارد وواقعي، لا يمكننا هنا النظر إلى هذا المخاطب على أنه “آخر”، فهو امتداد لذات المرأة الشخصية، وهي أيضا امتداد له، ويمكننا أن ننظر إلى الترديد هنا على أنه برزخٌ كلامي يلتقي فيه لسان المرأة بصوت ذلك المخاطب البعيد، وهو برزخ يجمع بينهما ويتمرد على الغياب. كما أنه برزخ يشيء بشيء آخر، فكما شعرتِ الراوية بالسحر في ومضة “نسائم”، ها هي المرأة الشخصية تجسّد هذا السحرَ أو السبيل المؤدية إليه من خلال ترديدها لصوت المخاطب، فهذا الترديد يتخذ شكل التميمة أو التعويذة التي تهدف إلى “تحضير” أو استحضار صاحبَ الصوت/المخاطَب. وتستخدم الراوية عبارة “لعل موجاته تحضرك”، وضمير الغائب عائد على الصوت وضمير المخاطب عائد على حبيب المرأة الغائب، لتوضيح سبب هذا الترديد، ومن هذا السبب نستنبط أن موجات صوت الشخصية التي تترد بصوت حبيبها تشكّل شبكة تواصل أو طريق بحث أو طريق عودة قد تلعب دورا حاسما في عودة هذا الغائب.

 

شاهد أيضاً

الأمريكي جون كاتلين يتوج بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف

متابعة صفوان الهندي توج الأمريكي جون كاتلين بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف والمقدمة من صندوق …