الجمعة ,26 أبريل 2024 - 9:22 صباحًا
الرئيسية / ثقافة وأدب / قارسيلا.. قصة الحرب والصراع والخرافة

قارسيلا.. قصة الحرب والصراع والخرافة

 

 

محمد تركي الدعفيس

___________________________________________________

 

تستمع إلى لهاثك، وتشعر أن أنفاسك تكاد تتقطع وأن تقترب حثيثاً من طيّ آخر صفحات رواية “قارسيلا” للروائي السوداني عماد البليك (هي السابعة في مشواره الروائي)، وحين تفعل، تتنهد طويلاً، لأنك أنهيت ماراثوناً طويلاً من حكايات الصراع التي تفوح منها رائحة الدم والمصالح والخيانة والقتل والتشريد والنزوح والتشرذم.

ثمة شيء متعب يطبق عليك وأنت تقرأ قصصاً تحفل بها مسارات الرواية عن انتهاك آدمية الإنسان، وعن طبقية التمايز بين إنسان وآخر لمجرد تباين اللون، واختلاف المنشأ.

العتبة الأولى للرواية “قارسيلا” تعلن عن فضائها، وأين تدور أحداثها.. وهكذا بلا مواربة، تضعك على محك التخيّل لما يجري في هذه المساحة، لكن بضع صفحات أولى تكشف أن “قارسيلا” هي المكان والإنسان.. المكان الذي نشأ قبل بضع سنين على نحو عشوائي في الأطراف الغربية لمدينة أمدرمان، وهي أيضاً الحاج سعد الذي اكتسب خبرة الحياة وتجارب السنين العجاف، والذي فقد عائلته كلها ولم يبق أحد منها على قيد الحياة، حتى أن قرينه فارقه يوم هاجم الجنجويد القرية وأطلق عليه جندي وابلاً من رصاصه غير أن “تميمته” حمته، فبقي مأخوذاً بالتمائم والأحجبة، ولأن الرئيس الأمريكي أوباما وحين كان سيناتورا قبل أن يصبح رئيساً كان قد زار مخيم النازحين واستمع خلال الزيارة إلى الحاج سعد وقال عنه “إن قارسيلا هو أكبر الناس هنا سنا وربما أعمقهم حكمة من خلال ما سمعه منه شخصياً.. ولهذا فهذا الوطن جدير باسمه”، فإن اسم المخيم كله ارتبط به، وصار مثله “قارسيلا”.

“قارسيلا” قصة حرب اشتعلت في دارفور عام 2003، وحصدت مثل كل الحروب الكريهة 300 ألف شخص، ونثرت ملايين النازحين، وتحوّلت ميدانأً للصراعات المحلية والدولية، وسوقاً للثراء وبيع الذمم والخيانات والنهب والاغتصاب.

وهي قصة لصراع اختلط فيه الجميع، قصة تروي من أين ابتدأ، وإلى أين مضى، ومن وقف خلفه، ومن انتهزه لتحقيق مصالحه الخاصة.. وهي قصة جنون أفلت من عقاله وضرب في كل الاتجاهات، فخلّف الاضطهاد، والعبودية، والأوجاع، وأطفالاً مجهولي الآباء، ونساء مرميات لمصيرهن المجهول، وعائلا أبيدت بالكامل تقريباً.

وفي سرده، يمسح البليك، وعبر لقطات بانورامية ما يجري في السودان بشقيه.. يعرج إلى المتاهات التي تسرق أبناءه وثواره ومتمرديه ومسلحيه حينما يتحولون إلى الخارج فتسحقهم الحسابات وتتلاعب بهم تقريباً وإبعاداً مصالح الداعمين، حتى أنهم يجدون أنفسهم مجرد أوراق يلعب بها الآخرون.

ومثلها مثل روايات الحروب والأزمات ليس ثمة بطل مطلق في “قارسيلا”، وإن كان حضور الشيخ سعد “قارسيلا” بقي طاغياً بانشطاره إلى شخصين بذات الشكل والجسم، يتواصلان أحياناً، ويموتان معاً في اللحظة ذاتها، بعد أن قدما لنا شكل العلاقة بين الأصل والصورة.. بين قارسيلا الذي فرّ غرباً إلى معسكر نزوح على حدود تشاد، وقارسيلا الذي توجه شرقاً يشيد حياً عشوائياً يستقطب النازحين قبل أن يباع في النهاية لمستثمر أجنبي ليفرض على أهله رحلة نزوج جديدة.

وإلى جانب قصة الشيخ سعد، ثمة مسارات أخرى في الرواية، حكايات تربطها الآلام، وكذلك الخرافة، كعادة عديد من الروايات الإفريقية، حيث تحفل “قارسيلا” بالأسطورة والفانتازيا، ولذا كان للقرين حضور طاغ فيها، يبدأ منذ صفحتها الأولى، حيث يسقط الرجل العجوز في الحافلة بأمدرمان، ويسقط رجل مسن آخر في ذات الوقت في قاعة في الخرطوم.. كلاهما قرين الآخر، صورته في مكان آخر، لا يهم كم يبدو بعيداً أو قريباً، المهم أنهما يمضيان في الحياة بترابط، وحين يحين أجل أحدهما، يقضي معه الآخر”.

ويستمر حضور هذا القرين ولو في التساؤلات التي لم يكف قارسيلا عن إطلاقها، فهو يقول في الصفحة 87 “هل سوف يلتقي قرينه الذي خرج منه في ذلك الفجر الدموي.

هل هو حي أم ميت؟”.

ويتابع في الصفحة 88″ يدخل في دوامة الشك، هل هو شخصين حقيقيين في شخص واحد؟ أم هو شخص واحد يتخيل أن له قرين أو رفيق خرج منه في يوم اللعنة، فما جرى أمام عينيه يمكن له أن يجعل الإنسان يجن أو يتصور أي خرافة خارقة”.

وعلى الرغم من أن ثقافة أفريقيا عموماً بقيت حبلى بالمشافهة، متخمة بالملاحم والأساطير، حيث لم تعرف فن الرواية إلا مع قدوم الأوروبيين إلى هذه القارة، إلا أنها كذلك تبدو متخمة بالفلسفة والحكمة، وهو ما تعبر عنه “قارسيلا” في كثير من فصولها، ففي الصفحة 24 تقول “”على الرحلة أن تمضي، هكذا هي فلسفة الحياة أن تقرر ومن ثم لا تلتفت للوراء، أن تسير بلا ظنون وتمارس الاغتيال المستمر لأي شائبة تحاول أن تجعلك ذلك الذي يخذل نفسه”.

وتقول في الصفحة 96 “القدرة على النسيان.. هذه الخاصية البشرية الغريبة التي تجعل الحياة ممكنة وتصنع الفرح في مقابل الأحزان”.

وتراوح الرواية بين أزمنة مختلفة، وتنتقل شخوصها من الحديث في الحاضر لتغوص في استعادة الماضي، وعلى الرغم من أهمية هذه المراوحة لفهم أبعاد هذه الشخصيات وخلفياتها إلا أنها بدت في بعض الأحيان بلا فواصل، خصوصاً حين يريد القارئ تمييز أي قرين هو الذي يتحدث، وكأنها تجهد هذا القارئ ليتبين في أي الزمنين بات، لكن هذا الإجهاد يشدّ انتباه القارئ أكثر، ولهذا فإن “قارسيلا” رواية ترفض استرخاءه، تأنف من أن يقرأها وقد مدّد قدميه في خمول وغاص في دفء كرسيه، وتجبره على أن يتحفز كأنه يتأهب لمفاجآت جديدة قادمة في رواية لا تتوقف مفاجآتها.

وتجنح قارسيلا في بعض فقراتها قليلاً نحو المباشرة، لكن ذلك لم يبدو فجّاً، بل ربما فرضته واستلزمته الظروف التاريخية التي تجري الرواية في زمنها، خصوصاً أن الأدب عموماً يتخطى محيطه والمساحة الجغرافية لانتماء كاتبه، ويتمدد أبعد من تلك الحدود، وهو ما أُضطر البليك إلى تحديد بعض الأحداث وربطها بتاريخ حدوثها والشخصيات التي تقف خلفها بشكل مباشر حتى يستطيع أن يصل إلى القارئ، أي قارئ، وليس فقط القارئ الذي عاش أحداث دارفور بالمعاينة أو الملامسة.

البليك يستخدم تقنية السارد العالم، وعلى الرغم من إعلانه أنه أنهى كتابة روايته في شهرين فقط، معللاً ذلك بأن الرواية كانت قد اختمرت في ذهنه قبل أن يباشر تدوينها على الورق، إلا أنه بدا مثل رسام يقف أمام لوحة من خام الألم، فيضرب ريشته في كل الاتجاهات، وحين يبتعد خطوة للخلف ليتأمل ما أنتج، يتيقن أنه قدم عملاً في صورة كاملة لمأساة إقليم، ومعاناة شعب.

 

شاهد أيضاً

الأمريكي جون كاتلين يتوج بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف

متابعة صفوان الهندي توج الأمريكي جون كاتلين بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف والمقدمة من صندوق …