الثلاثاء ,14 مايو 2024 - 1:34 مساءً
الرئيسية / ثقافة وأدب / تزييف التاريخ.. لعبة مغزل أم مهارة كاتب؟

تزييف التاريخ.. لعبة مغزل أم مهارة كاتب؟

 

محمد تركي الدعفيس

روائي وقاص وصحافي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

التاريخ لا يكتبه المنتصرون، بل قد يكتبه الهامشيون، وأحياناً العابثون أيضاً.

هذا ما يقوله الروائي الأرتيري حجي جابر في روايته الثالثة “لعبة المغزل” التي تتكئ على التزييف وتزوير الحقائق الذين لا يمارسهما الديكتاتور وحده لإقصاء مناوئيه والبقاء في الصورة ناصعاً لا يطاله الباطل، وإنما قد تعم المسألة لتصبح فعلاً جماعياً يمارسه الكل إقصاء واصطفاء وتعديلاً وتجميلاً وتشويهاً وتلفيقاً.

هي رواية لا تغادرك بعد أن تغادرها، وتأتي نهايتها الصادمة لتلقي بكل ما قرأته في تفاصيلها السابقة في دائرة الشك، كأنها تحرضك على إعادة قراءتها من جديد، وعلى التمعن في كل قصة من قصصها وتقليبها من كل الوجوه لتعرف أين كانت صادقة وأين سقطت في مهاوي الزيف.

هي رواية تتحدث عن فتاة تعيش مع جدتها البارعة في غزل الصوف، بقدر براعتها في نسج الحكايا وقصّها، حيث تلتحق الفتاة التي تلتهمها العيون لجمالها الأخاذ بالعمل في دائرة الأرشيف الوطني، وهناك تكتشف أن السيد الرئيس يعدل الوثائق التي تؤرشف بما يلّمع صورته، وينتقص من مناوئيه وحتى المحيطين به، فتستحلي اللعبة، وتمارس التزييف بدورها، حتى يصل عبثها إلى أنها تزيف ما تكتشف لاحقاً أنه حكاية والدتها.

بذكاء شديد يأخذنا حجي جابر في روايته ليؤكد أن “للحكاية الواحدة وجوه عديدة”، فيجعلنا ننصت إلى تباري الجدة والحفيدة (مع رمزية إشارة الجدة إلى الماضي، والفتاة الشابة إلى الغد، كأنه يريد القول أن التزييف ليس حكراً على حقبة مضت، بل سيبقى ممتداً إلى حقب آتية) في سرد الحكاية نفسها بأوجه ومآلات مختلفة، فنتعاطف مع أبطالها حيناً ونحقد عليهم أخرى حين يتغير مآل الحكاية، وكأن الرواية تجدد التأكيد فصلاً إثر آخر أو (شريطاً إثر آخر حسب الكاتب الذي اختار تسلسل الأشرطة عناوين لفصول وأقسام الرواية التي  ينقلها لنا في تقنية تسجيلية) على أن الحكايات ليست هي الحقيقة بالضرورة، فكل رواية تبقى رهناً بقائلها الذي قد يعبث بها كيف يشاء، لكنها أحياناً تلتف حوله، وتعود لمعاقبته على طريقتها، كما تفعل حكاية والدة الفتاة التي بقيت مغيّبة بعد أن زيفها السيد الرئيس، وبعد أن أمعنت الفتاة في الإساءة إليها قبل أن تدرك لاحقاً أنها غرست أظفارها في صدر المرأة التي لم تكن تعرف أنها والدتها، وهذا يتجلى بوضوح في الصفحة 77 متحدثاً عن الفتاة “تتباهى بقدراتها المتنامية، بموهبتها في فك الحكايات وإعادة تركيبها بطريقتها الخاصة، شيطنت الطيبين، وأعادت القساة إلى جادة الصواب. لعبت بالمصائر والأقدار، لعبت في الأعمار، والمشاعر، والدوافع”.

وفي حوار صحفي يؤكد حجي جابر أن الرواية الثالثة لأي راوٍ يفترض أن تكون العلامة التي تكشف نضج تجربته، ولذا فإننا نراه في هذه الرواية وبعد “سمراويت” و”مرسى فاطمة” يبدع في سرد الحكاية الواحدة بأشكال مختلفة وكأنه يستعرض قدراته السردية موظفاً إياهاً برونق يضفي روعة عليها، وهو يقول في الصفحة 85 “تذكرت جدتها وهي تخبرها يوماً أن كل الحكائين إنما يغرفون من ذواتهم بشكل أو بآخر”، ثم يعود لتأكيد هذا المقولة من جديد في الصفحة 106 حين تطرح بطلة الرواية السؤال على جدتها “ماذا يفعل الحكاء حين ينضب معينه؟”.. ويأتي جواب الجدة “الحكايات لا تأتي من الخارج حتى لو كانت تخص آخرين”، ثم تواصل “لا تأتي الحكايات الجديدة إذا بقي إحساسنا عل حاله”.

وعلى خلاف ما دوّنه في روايته، وعلى خلاف ما بدا أنه يحكيه عن الآخرين وهو يعتمد تقنية السارد الكلي المعرفة، بدا أن حجي جابر يحكي حكاية بلد.. حكاية تصلح في كل بلد، لكنها ليست مجرد حكاية مسلية، بل حكاية موجعة تنكأ الجراح والوجع في معظم تفاصيلها.

وتحفل الرواية بالصراعات وعلى مستويات عدة، فهناك صراع حاد بين القبح والجمال، وهما لا يقتصران على القبح والجمال الجسدي، بل يتعديان ذلك إلى الصراع بين قبح الزيف الذي مارسه السيد الرئيس ومارسته البطلة ومارسته دائرة الأرشيف، وبين جمال الحقيقة بكل مراراتها، وهو الفعل الذي مارسه الطبيب الدميم مواجهاً نفسه والعالم حوله بحقيقة صورته غير المزيفة.

الجميل في حجي جابر قدرته على التقاط التفاصيل كأنه الجدة في روايته “لعبة المغزل” فهو يأنسن الجمادات ويمنحها روحاً ويوظفها حيث تضفي مزيجاً من التكامل على الرواية التي تستحق أن تقرأ مرة بعد مرة.

 

شاهد أيضاً

الجمعة.. انطلاق الموسم الافتتاحي من بطولة رابطة المقاتلين المحترفين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الرياض

تعرض مباشرة على قناة MBC أكشن ومنصة شاهد أعلنت رابطة المقاتلين المحترفين (PFL)، الدوري الرياضي …