الإثنين ,29 أبريل 2024 - 2:55 مساءً
الرئيسية / ثقافة وأدب / أطفال السبيل.. حكاية الطهر حين تغتاله العفونة

أطفال السبيل.. حكاية الطهر حين تغتاله العفونة

 

 

محمد تركي الدعفيس

روائي وقاص وصحافي

 

حين تتصدى لقراءة أي عمل روائي، تبدو كأنك على أهبة اقتحام عالم جديد لا تعرف ملامحه، وليس لديك أدنى فكرة عنه.

أعرف طاهر الزهراني من صفحته في الفيس.. كنت أقرأ بعض آرائه وملاحظاته واصطياده الذكي لفقرات من مقالات أو روايات أو غيرها، لكني لم أقرأ أياً من أعماله، وحين عزمت على ذلك كنت أفكر بروايته “الميكانيكي”، لكن رُشحَتْ لي روايته “أطفال السبيل” كأن القدر كان يضعني على موعد غير متوقع معها.

حيث بدأت تقليب صفحات الرواية، قرأت “الغراب الأعصم الذي ألقيت في رأسه الرعونة بعد الطوفان ينفض جناحيه النتنين في كوة يعلوها الغبار في قصر خزام المهجور يطوف فوق سماء جدة كعادته كل صباح تأسره التفاصيل”.. كانت تلك بداية غير اعتيادية لرواية، كأنه تستفزك لتتأنق لموعد خاص، وهي بداية أوحت أن هذا الغراب الأعصم (وهو الغراب الذي إحدى رجليه بيضاء وهو نادر وقليل بين الغربان) سيمضي إلى آخر العمل الروائي ليقدم لنا رؤية خاصة، فدائماً تبدو الرؤية من علٍ أوضح وأكثر دقة وإلماماً بالتفاصيل، وهو ما نتلمسه حين يعرّج بنا هذا الغراب كأنه يحملنا على جناحيه وهو يطوف بالسبيل وبالحواري والمدينة ويقدم لنا ما يراه في لقطة بانورامية تمسح المكان والوجوه، قائلاً: “ورغم بؤس المدينة إلا أنها تؤوي النازحين من القرى، والباحثين عن الرزق، والكثير من القادمين الذين خلعوا أرديتهم البيضاء بعد زيارة الأماكن المقدسة، وقرروا المكوث في المدينة التي تكتنف الجميع، أعراب من الصحراء، هنود سمر، أفارقة سود، فطس من جاوة، لحى من بخارة”.

يكتب الزهراني في روايته عن الحب والحرب.. عن الطهارة والعفونة.. عن الطفولة التي تُسحق في السبيل.. عن ناجي الذي أبق من الحياة بعدما فقد حبيبته تهاني التي رفض والدها زواجه منه وزوّجها من آخر، وبعدما لحق بها صديقه عادل الذي قضى في حادث، فأغرقه الحزن حتى بات يهرب من الحياة بالشراب.

يكتب عن الطفل طلال الذي عاش عالم البراءة، وهرب من سعدية السوداء قبل أن يكتشف لاحقاً أنه على عتبات توديع الطهارة حين خلع طفولته، وطالت قامته، وصارت كل الأبواب التي كانت دوماً مفتوحة مرحبة به، تقفل في وجهه لمجرد أنه اقتحم عالم البلوغ.

يتحدث الزهراني عن عامل الطفولة، الطاهر، النظيف، والمسحوق كذلك، والذي تجعله هذه البراءة عرضة أحيانا حتى للانتهاك الجسدي.

وهو يستخدم تقنية السارد البطل في روايته، لكن السارد ليس واحداً، فمرة يكون الغراب، وأخرى الطفل طلال في تواز مدهش، وإمساك متقن بالخيوط لا يجهد القارئ في تمييز السارد، وهو يتماهى في بعض الأحيان فيجعل الغراب قادر حتى على اقتحام ما في داخل جمجمة طلال، حيث يقول “لو كنت أجيد الكلام لأخبرتها أن القمل في داخل جمجمته، وأن مخه مزرعة لبيض القلق”.

المدهش الجميل في الرواية أن التوازي بين طلال والغراب الأعصم يمضي بخط واحد حتى النهاية، ففيما يقع اليافع طلال بعد بلوغه في عالم التلوث مودعاً الطهارة والطفولة والبراءة، يسقط الغراب أخيراً في بقعة من طين أسود، لكن ريشته البيضاء (رمز النقاء والطهارة والنظافة) هي التي تبقى طافية، حتى وإن كان ذلك إلى حين.. كأن الزهراني يريد أن يقول لنا أن الطهارة وحدها تنجو من العبث والدنس، لكن هذا الأخير يبقى متربصاً بها دون أن يمل ترقب تلوثها حين تكل أو تتعب.

على وقع طبول الحرب يحاول الزهراني تحريك شخوصه،  يتحدث عن أثر الحرب على الجميع، حتى الصغار الذي لم يعووا معناها بعد، وهو يمر بذكاء على هذا الأثر، فيقول “هكذا نحن في الحروب، يعقل المجنون، يجن العاقل، يبقى المواطن، يهرب المدعي، تكثر الشائعات، يندر الصدق، تبتعد الشقة، يفيض المحسن، يغل الجشع، هكذا نحن، إما أن تطهرنا الحروب، أو تقرر نجاستنا”.

وعلى شكل مقاطع تتباين طولاً وقصراً يعزف الزهراني موسيقى روايته بالكلمات والجمل القصيرة الخاطفة القاطعة، والصورة التي ترسم المشهد في ذهن القارئ بلا مواربة، ويبقى للأم عنده مكانتها كملاك لا تطاله العيوب، فهي الحكيمة التي تروي القصص كنسمة لا تعرف الغضب أبداً، تنصح وتصلي وتدعو وتبلّغ طلال أنه بات اليوم وبعد أن خرج “ماؤه الأول” حراً في تصرفاته، بعد أن تعلمه بجلاء أنه صار محاسباً على أفعاله، ومسؤولاً عنها، وصار يميز بين الخير والشر وبين الصواب والخطأ.

يكتب الزهراني نصاً سابحاً، فيه كثير من التناص مع القرآن، فيه الجملة القصيرة، والقفلة المدهشة، ربما كان الزهراني القاص يطل من داخله في كل حين فيفرض إيقاعه أحياناً على الزهراني الروائي، لكنه لا يفلت خيوط السرد في عمله أبداً، وهو يُطلق أحكامه بشكل حاسم وقاطع غير قابل حتى للجدل، فيقول في الصفحة 153 “لم يعد هناك ما يبهج”، على الرغم من أن هذه العبارة تطل وسط التناقضات التي يعيشها طلال المراوح بين طهارة الطفولة وعفونة البلوغ، بين هداية والدته وضلال شقيقه ناجي، فتجره أمه إليها تارة، ويجذبه ناجي إليه تارات.

“أطفال السبيل” رواية سلسة، تقدم المتعة، وتحفر عميقاً في وجدانك، فتتشبث بك، حتى حين تغادرها بعد أن تقرأ في نهايتها كلمة “تمت”.

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

الأمريكي جون كاتلين يتوج بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف

متابعة صفوان الهندي توج الأمريكي جون كاتلين بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف والمقدمة من صندوق …