الأحد ,28 أبريل 2024 - 10:08 مساءً
الرئيسية / ثقافة وأدب / قراءة نقدية….محاولة للتواصل: قراءة في ومضات بسام جميدة

قراءة نقدية….محاولة للتواصل: قراءة في ومضات بسام جميدة

 

جمال الجزيري

________________________________________________________________

سأتناول في هذه الدراسة بعض ومضات الكاتب السوري بسام جميدة. والومضات التي قمتُ باختيارها تتمحور حول محاولة التواصل مع الذات ومع الآخر، ولا أقصد بالآخر هنا نقيض الذات، وإنما أقصد به الأشخاص الذين يوجدون خارج نطاق الذات، ليس باعتبارهم موضوعات قد تتأملها هذه الذات أو تصرف النظر عنها، وإنما باعتبارهم أشخاصًا لهم ذاتيتهم أيضا، وتلتقط الومضات لقطات من المنطقة الوسطى التي تجمع الراوي بهم أو بنفسه أو بظله عندما ينفصل عنه.

وجع

الرجل الذي تخطاني مسرعاً ويلهث متعباً ترك تفاصيله الموجعة في وجهي، وغاب في الزحمة.

2 أغسطس 2016

ومضة “وجع” ومضة توظّف بنية ومضة الاسم الموصول لتجمع بين شخصيتين متباعدتين ظاهريا، مرتبطتين في الواقع. من الواضح أن زمن السرد يلي زمن الحدث مباشرة، وكأن الراوي يسرد لنا هذه الومضة القصصية بعد غياب الشخصية الأخرى في الزحام مباشرة. ومن الملاحظ أن الراوي لا يستعمل كلمة الزحام الأكثر رسمية، وفضل عليها كلمة الزحمة التي تحمل نفس معنى الزحام، ولكنها تضيف له دلالات شعبية، نظرا لاقتران هذه الكلمة أكثر بالاستعمال العامي لدى معظم الناس. وإذا كان الزحام يدل فقط على كثرة الأشخاص في مكان واحد، فالزحمة تضيف لهذه الكثرة قدرًا من ارتباك الحركة وقدرا من الخلل وقدرا من الضياع وقدرا من الإحساس بوطأة المشاغل ووطأة عدم وجود وقت للعلاقات الإنسانية ولا للبحث عن الذات ولا للإحساس بالبراح.

يتميز الرجل بالإسراع واللهاث والتعب، ولكها سمات مكتسبة من تكدس مشاغل الإنسان المعاصر وسرعة الحياة وقلة الموارد وما يترتب على ذلك من ضيق وقت ومن إرهاق للنفس البشرية، وكأن الحياة في مجتمعاتنا رحلة ثقيلة الوطأة نظرا لما يعانيه الإنسان العربي في سبيل مواصلة الحياة وكسب لقمة العيش. ومع أن هذا الرجل متعب، لا يمكنه البطء، وعليه أن يواصل سيره حتى يلحق بمبتغاه ويتخلص من عبء يوم في حياته.

أما الراوي فيحس بالتوحد مع هذا الرجل، وكأنهما يتقاسمان نفس التعب، ويبدو أن تعب هذا الراوي أكبر، لأن حركته أبطأ من حركة ذلك الرجل، ولذلك يتماهى الراوي من ذلك الرجل ويحس بأن تفاصيل تعبه التصقت بوجهه. ومن الواضح أن الراوي لديه قدرة أكبر على التأمل: تأمل الوجوه والأشخاص وحركتهم وتأمل طبيعة الحياة المعاصرة، فها هو يتيح لنفسه وقتا يستطيع فيه أن يرصد ملامح التعب على وجوه السائرين في الزحمة وأن يحس بمعاناتهم وأن يتأثر بها وينفعل بما تتركه فيه من آثار.

هذه الومضة تركز على لحظة زمنية واحدة عبارة عن رصد لشخصية من الشخصيات والتماهي معها والانفعال بانفعالاتها وحالتها النفسية والوجدانية والجسدية، ومن الملاحظ أن الراوي يركز على القاسم الإنساني المشترك بينه وبين هذه الشخصية، فيرصد لنا في الوقت ذاته حركة الرجل ولهاثه وتعبه في جزء من اللقطة التي تسجلها الومضة، ثم يكمل هذه اللقطة بانفعاله بما رصده.

عتاب

نظر إليَّ بحزن وغاب في زحمة المدينة، ترك عينيه تعاتباني، فررت إلى قلبي لعلي أعرف السبب.

8 أبريل 2016

ومضة “عتاب” وجه آخر من وجوه ومضة “وجع”، فهي ترصد المشهد من زاوية أخرى. فبدلا من أن ينطلق الرجل الذي كان “غريبا” في ومضة “وجع” دون أن يلتفت للراوي، ها هو الرجل ينظر للراوي نظرة تستجوبه وتستجوب ما قام به الراوي في حقه، لكن نظرة الحزن كافية لأن ترسم لنا صورة عما فعله الراوي مع هذا الرجل، فمن الواضح أن الراوي أحبط هذا الرجل ذات يوم أو خيّب آماله فيه.

ويبرز الراوي المكان الذي يدور فيه الحدث، فكما في ومضة “وجع” هناك “الزحمة”، وتقترن هذه الزحمة هنا بالمدينة. ولا أريد هنا أن أعقد تقابلا أو تباينا بين القرية والمدينة، مما كان يشيع في شعر الحداثة والشعر الرومانسي، فظروف الحياة صارت متشابهة في القرية والمدينة، فالمهم هنا هو الخلل الذي حدث في العلاقات الإنسانية، وهو خلل يحدث في المدينة والقرية على حد السواء، وإن كان في المدينة أقل وطأة، لأن الناس في المدينة لا يتوقعون الكثير من بعضهم البعض، في حين أن القرية ترتبط بجذور غالبية معظم سكان المدن وترتبط بالطبع بسكان القرى، وأي خلل في العلاقات الإنسانية فيها يمسُّ الجذور مباشرة ويكون أقرب لقطع صلة الرحم وقطع الجذور معا.

والغياب “في زحمة المدينة” هنا لا يدل على الضياع، وإنما يدل على الاختفاء الجسدي ليس أكثر، وهذا الاختفاء الجسدي المادي للرجل لا يقترن باختفاء آثار هذا الرجل، فها هو الرجل يترك عينيه لتعاتبا الراوي، وهو تركٌ رمزي بالتأكيد، فالرجل اختفى كلية، ولكن إحساس الراوي بالذنب – وإن كان لا يعرف أبعادَ هذا الذنب – يجعله يحس بأن نظرة الرجل لا تستطيع أن تفارقه، وتبقى بعد انصرافه أو غيابه لتدل عليه وتؤكد على بقاء الحزن وبقاء الإحساس بالذنب على حد السواء.

وحركة الرجل تناظرها حركة من الراوي، ولكن حركة الرجل في المكان وهي حركة خارجية منظورة، في حين أن حركة الراوي حركة داخلية بحثية تأملية تفتّش عن سبب هذا الحزن وهذا العتاب وهذا الإحساس بالذنب، فمن الواضح أن الراوي يعرف هذا الرجل جيدا، ومن الواضح أن “زحمة المدينة” تركت أثرها على الراوي وأثقلت على ذاكرته ولا تجعله يستطيع أن يتذكر سبب هذا الحزن، ولذلك يترك ذاكرته جانبا، ويفتش في قلبه مباشرة، وهو على إيمان بأن القلب مستودع أكثر أمانا واحتفاظا من العقل ومن الذاكرة.

ومن الملاحظ أن هذا الراوي يستعمل الفعل “فررتُ” الذي ينم عن محاولة النجاة أو الاستنجاد، طلبا للأمان وطلبا لليقين. ومع أن الراوي لا يذكر سبب الحزن الذي في عين هذا الرجل، لا يتعالى ولا يتكبر ولا يتنكر ولا يساير ذاكرته في نسيانها أو تناسيها أو تنكّرها، ولذلك يفرّ إلى قلبه ليطهّره مما علق به من ظلم تسبب في حزن ذلك الرجل.

 

ضياع

سألته عني وأنكرني، كأنه لم يعرفني، تائه هو أم أنا..؟

23 يونيو 2016

في ومضة “ضياع” يلقي الراوي الضوء على ومضة “عتاب” وتجسد الومضة العتاب بشكل أو بآخر، فها هما شخصان آخران: الراوي وشخص من المؤكد أنهما كانت تربطهما علاقة فيما مضى، ولكن هذه العلاقة ليست متجسدة بشكل كامل الآن، فمن الواضح هنا أن الراوي يلتقي بهذا الشخص بعد انقطاع في علاقتهما، أو بعد غيابهما عن بعضهما البعض لفترة تبدو طويلة، ومن الواضح أن الراوي يحاول استعادة هذه العلاقة من خلال تذكير هذا الرجل بنفسه، وكأنه يسأله: “ألا تعرفني؟” ولكن الرجل يتصرف “كأنه لم يعرفني”، وهي عبارة تؤكد وجود علاقة سابقة بينهما، وفي الغالب كانت علاقة وطيدة، على الأقل من جانب الراوي، فمن الواضح أنها كانت علاقة مصلحة نفعية من جانب هذا الرجل.

وبعد أن يسلط الراوي المشارك الضوءَ على هذه اللقطة الإنسانية، أو بالأحرى “اللاإنسانية”، يختم الومضة بالسؤال “تائه هو أم أنا؟”، الأمر الذي يجعل هذه الومضة ومضة استفهامية، كما تناولتُها من قبل في بعض المقالات المنشورة في مجلة سنا الومضة القصصية حول ومضات هيفاء حماد وغيرها. وطبيعة الومضة الاستفهامية تقوم على السعي نحو المعرفة، فالاستفهام استفهام استجوابي في الغالب بالإضافة إلى طابعة الاستعرافي، إذا جاز لنا أن نستخدم هذه الصفة، أي الومضة التي تسعى لاكتساب المعرفة من خلال السؤال.

وعلى الرغم من أن هذا السؤال جدلي وفلسفي بطبعه، يمكننا أن نستخلص منه التأكيد على حالة التوهان، دون إثباتها للرجل أو لنفسه، مع أن السياق يثبتها للرجل، ولا يثبتها للراوي إلا إذا نظرنا لهذا التوهان من منظور آخر: فتوهان الرجل توهان في زحمة الحياة، إذ أن الانغلاق على الذات والتعامل مع كل الأشخاص تعاملا نفعيا ماديا والتركيز على المصلحة الشخصية بعيدا عن العلاقات الإنسانية يجعلون هذا الرجل تائها عن ذاته في الأساس قبل أن يكون تائها عن أصدقائه وعن البشر الموجودين في محيطة الاجتماعي والعلائقي.

أما توهان الراوي – هذا إن كان تائها – فهو توهان نقيض، أي أن هذا الراوي يبحث عن العلاقات الإنسانية وعن التواصل الإنساني في عصر طغت عليه الماديات، وليست الماديات فحسب، ففي دول ما يُطلق عليه “العالم الثالث” – وخاصة في العالم العربي – تسعى الأنظمة إلى جعل المواطنين ينكفئون على لقمة عيشهم بحيث لا يجدون وقتا للإحساس بإنسانيتهم ولا للتفكير في العلاقات الإنسانية، وكأن المواطن العربي مقصودًا له أن يعيش تائها طوال الوقت كي لا يفكر في شيء مما يزعج الطغاةَ ويؤرق حياتهم.

تنتهي الومضة، وتتركنا نواجه أنفسنا ونفكر فيما ارتكبناه في حق أنفسنا وفي حق غيرنا، وتجعلنا نراجع أنفسنا ومواقفنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا، بحيث نحاسبها على ما يمكن أن نكون قد ارتكبناه من أنانية مفرِطَة ومن انصياع لظروف ساحقة. وهنا أتذكر مقطعا من أغنية “ثوروا كتشي جيفارا” لأمل مرقص: ” ثوروا على المضّطهِدينَ/ وارفضوا العيشَ المهينَ/ سكان قرية أو مدينة/ كلنا معا سائرين”.

فك شراكة

ظلي الذي يرافقني أبى أن يواصل سيره معي، صرخ مستنكرًا أفكاري.

3 أغسطس 2016

في ومضة “فك شراكة”، يمكننا أن ننظر إلى الراوي على أنه ذلك الرجل في ومضة “ضياع”، فهنا راوٍ يقف وقفة تأمل مع نفسه، ويدرك أن هناك خللا ما في حياته وفي شخصيته يجعله غير متوافق مع نفسه. فالظل هو أثر الشخص ودليله ومرآته الحقيقية التي لا تنافقه، وهو ما يتبقى من الشخص وأفعاله وأعماله بعد رحيله أو يتبقى في مخيلة الناس وتصوراتهم حتى أثناء وجوده.

وتعتمد الومضة على بنية الاسم الموصول. وصلة الموصول هنا عبارة عن كلمة واحدة – يرافقني – وتدل على الملازمة والمصاحَبَة وعلى التوحد بين المرء وظله. والزمن المضارع في “يرافقني” زمن ممتد منذ بداية وجود الراوي في الحياة حتى هذه اللحظة الفارقة، أي أنه لن يكون مضارعا بعد ذلك، فمن هذه اللحظة الفارقة يتحول الزمن إلى الماضي: كان يرافقني.

وعندما ننتقل إلى بنية الومضة الأساسية بمعزل عن صلة الموصول، نجد أن المرافقة تتحول إلى سير، وكأن هذا التحول ينم عن تحول في العلاقة بينهما، وهو تحول إلى التوتر في هذه العلاقة، فلم يعد الظل يحس بمعنى المرافقة ولا الملازمة، وبالتالي انفصل إلى مجرد شخص يسير معه، كما أنه لا يرضى بهذا السير، ويرفض أن يواصل علاقته بالراوي.

وتأتي الجملة الأخيرة لتلقي الضوء على هذا التوتر في العلاقة، فها هو الظل يصرخ في وجه الراوي ويستنكر أفكاره. ومن الواضح أن الظل وصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها تحمل الراوي ولا أفكاره، ومن الواضح أن هذه الأفكار تتنافى مع انسجام الراوي مع ذاته وتقضي على التوافق في شخصيته، والظل لا يعرف الرياء ولا الكذب ولا النفاق ولا التصنع، ولذلك يثور على صاحبه. ونظرا لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا ظل، بلا ذات متوافقة حتى ولو بعد حين، يمكننا النظر إلى ثورة الظل ههنا على أنها صرخة في وجه الراوي تدعوه لأن يصحح مسار حياته وأن تكون أفكاره بناءة تقوم على السلام النفسي الذي لا يمكن أن يتحقق إذا ابتعد الظل عنه.

 

 

 

شاهد أيضاً

الأمريكي جون كاتلين يتوج بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف

متابعة صفوان الهندي توج الأمريكي جون كاتلين بلقب بطولة السعودية المفتوحة للجولف والمقدمة من صندوق …